خَطَرَتْ فكرة كتابة هذا المقال على بالى بعد أن تصفحت تعليقاَ كتبه أحد المعلقين (أتأسف كثيراً من عدم قدرتى على تذكر اسمه) على مقالى السابق ذكر فيه “أن البابا مقدس فى أوربا” وأدركت على الفور أن المعلق يتعامل مع معلومة تاريخية قديمة على أنها معلومة طازجة وسارية المفعول فى حاضرنا المعاصر، وهذا يؤدى إلى إشكالية عدم الفصل بين الماضى والحاضر رغم أن الحاضر قد يختلف كثيراً عن ماضٍ عفى عليه الزمن.
لا يُعاب المعلق على ذلك لإن عدم التمييز بين الحاضر والماضى هى جزء من ثقافة عالمنا الإسلامى الذى يتحرك بسرعة السلحفاة، بينما تتحرك الاُمم الراقية بسرعة تساوى أضعاف سرعة الصوت إذ لم أقل الضوء!
فهل البابا فعلاً مقدس فى أوربا اليوم؟ هذا هو ما سوف نحاول الإجابة عنه أدناه.
نعم، كان البابا مقدساً فى أوربا! بل كان “ظل الله فى الأرض”، أو هكذا تذكر أدبيات الزمن الغابر!
أما حال البابا فى أوربا اليوم “فحدث ولا حرج” وينطبق عليه تماماً ذلك المثل “النسائى” “اليمنى” الشهير الذى يقول “ظل الرجل ولا ظل الحيط”!
والرجل الذى يستظل البابا هذه الأيام بظله هو”الدولة الإيطالية” التى تتبرع بأن توفر له نوعا من الحصانة وقدرا من الحماية.
أما إذا اضطر البابا للخروج من صومعته كى يزور إحدى الدول الأوربية تصبح حالته النفسية أسوأ من حالة الإكتئاب التى وصلت إليه نفسية المتنبى عندما زار مصر ولم يجد من كافور الإخشيدى – أحد اُمراء دولة المماليك من أصل إفريقى- الترحاب الذى كان يتوقعه نظرأً لمكانته الأدبية كشاعر زمانه فى العراق ذلك الوقت فأنشد قائلاً:
أقمتُ بأرض مصر فلا ورائى، *** تخب بى المطى ولا أمامى
وملنى الفراش وكان جنبى *** يمل لقائه فى كل عام!
وعلى عكس المتنبى تماماً تخب المُظاهرات فعلاً أمام البابا عند زيارته لأي دولة أوربية وتخب من ورائه أيضاً عند مغادرته للبلاد، ويحمل المتظاهرون ضده فى غالب الأمر لافتات كتب عليها “أخرج من بلادنا”، “لاتعد إلى هنا مرة اُخرى” أو ما هو أسوء من ذلك، فيعود إلي من حيث أتى حزيناً مكتئباً خاشع البصر ومشتكياً عن طول معاداة أوربا للكنيسة ورموزها!
ليس هذا فقط! بل يعتبر البابا وكنيسته منبع إلهام لا ينضب، ومادة دسمة لرسامى الكاريكاتورالذين لا يملون عن السخرية من أقواله ومعتقداته وفتاواه المعارضة لاستخدام الشباب “للواقى” فى اتصالاتهم العاطفية وغير ذلك من الفتاوى التى تبرز مدى انفصاله من المجتمع الأوربى والواقع المعاش!
وهكذا حولت المجتمعات الآوربية الحية والفاعلة المقدس الذى كان يوما ما “ظل الله فى الآرض” إلى اُحفور اجتماعى حى يتنافس مدراء المتاحف الاُوربية على اقتنائه لعرضه فى الفاتيرنات الأمامية لمتاحفهم!
بل الأمَرُ من ذلك، أن الشرطة فى إيطاليا بدأت تَدُس أنفها هذه الأيام فى سجلات مصرف البابا (مصرف الفاتيكان) ويقال إنها اشتمت عفن الفساد، وغسيل الأموال فى هذا المصرف الذى يقع فى داخل حرم الفاتيكان.
وإذا تطور هذا الأمر إلى ما لا يحمد عقباه، فلا تستغرب أن تتناقل وكالات الأنباء فى القريب العاجل أن البابا قد استدعي للمثول أمام المحكمة كشاهد فى قضية غسيل أموال أو أنه وضع فى قفص الاتهام بتهمة الفساد وغسيل الأموال!
وإذا حدث ذلك – لا قدر الله- فسوف تتبخرعلى الفور حصانته الدبلوماسية وحمايتة الأمنية كما تبخرت في الهواء الحصانة الدبلوماسية للأمير السعودى الذى قَتَلَ مرافقه قبل اسابيع مضت فى فندق لاندمارك الشهير فى قلب العاصمة البريطانية لندن.
لقد قال القاضى لهذا الأمير: “نادراً ما يأتى “أمير” إلى هنا، ولكن إذا حدث ذلك، فلا أحد فوق القانون”، ثم حكم عليه بالمؤبد!
القانون والدستورالمكتوبين بأيدى بشرية فقط هما ” ظل الله فى الأرض” فى أوربا اليوم، ومن سُخرية القدر أن الملايين من المسلمين الذين هربوا من بلاد عربية تؤكد أن القرآن الكريم هو دستور البلاد وجدوا الأمن والأمان تحت هذا الدستور البشرى الذى وضعه “كفار زنادقةٌ” لايؤمنون بكتاب الله وسنة رسوله! كما وجد آخرون من المسلمين الأمن والأمان تحت أعلام ترفع الصليب بعد أن هربوا من جحيم عَلَم يرفع “الشهادتين” عالياً خفاقاً.
يشتاق أهل السلطة فى أوطاننا كثيراً إلى استعمال هذا القب الزاهى “ظل الله فى الأرض” الذى استمتع به باباوات أوربا كثيراً فى أيام مجدهم وذلك للحصول على المزيد من الجلالة والعظمة والشعور بأنهم أنصاف آلِهَة إن لم يكونوا الآلِهَةُ ذاتها.
إلا أن ما يمنع أصحاب السلطة فى بلادنا من إستخدام هذا اللقب ليس بالطبع مخافة الله، وإنما خوفهم الدائم من تحول امتلاكه إلى “القشة التى قصمت ظهر البعير”!
وبذلك قدر عليهم أن يستعيضوا مضضاً عن هذا اللقب الذى يُسَيِلُ لعابهم بالقاب مثل: فخامة الرئيس، جلالة الملك‘ أمير البلاد أو حتى لقب ظريف مثل “ألاخ”.
وحامل هذا اللقب البسيط “الأخ” يحمل إلى جوار ذلك بالطبع ألقابا اُخرى لم يستطع أحد قبله الاستمتاع بها مثل لقب “ملك ملوك أفريقيا، مهندس النهر الصناعى العظيم، “صاحب الإنجيل الجديد” “النظرية العالمية الثالثة”، المفكر، المعلم، القائد، ” أمين القومية العربية” وغير ذلك من الألقاب الكثيرة الغائبة الآن عن ذهن كاتب هذه الأسطر.
يحلو لصاحب هذه الألقاب الجميلة وبطانته إقامة حفل إستعراضى ضخم كل عام فى الذكرى السنوية ليوم وصوله إلى السلطة، وتزين الميادين العامة فى عاصمة بلده فى هذا اليوم بلافتات كتب عليها بيت لقصيدة لشاعر مجهول يقول فيها : “وحطمت عصى الراعى تاج الملك – وإنتصرت الخيمة على القصر”!
وقد يكون هذا البيت لهذا الشاعر المجهول نبوءة غير سارة لنا جميعاً، وذلك لأإن دوام الحال من المحال، فالأيام لا تكف عن الدوران، فهى يوم لك ويوم عليك، وأصبح اليوم يوم لشيوخ النفط!
وبقوة بدارهم النفط انتصرت خيمة نجد البدوية على قصر عابدين[1] وأصبحت مصُر (المركز ألحضاري المرموق للعالم الإسلامى سابقاً) تدور فى فلك الرياض وأصبح الأزهر الشريف (أحد أهم المرجعيات العليا للمذهب السنى فى العالم الإسلامى لألف عام أو يزيد) يدور ككوب مظلم فى فلك مكتب الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بالرياض، وأصبح فقه الأزهرالمعروف “بالفقه الأشعرى” خادماً ” لفقه البداوة” (المصطلح مستعار من الإمام محمد الغزالى رحمه الله).
وإذا كانت مجتمعات أوربا الحية والنشطة قد حولت بابا الفاتيكان إلى أحفور إجتماعى أو يكاد، فإن رجال الدين فى إيران سرقوا على غفلة من الزمن ثورة الشعب الإيرانى على نظام الشاة محمد رضا بهلوى فى عام 1979 وأقاموا لنا “بابا” جديد هو الآن أية الله على خامينئى الذى سيتحكم على رقاب الناس حتى ظهور المهدى المنتظر أو الإمام الغائب (حسب اعتقاد الشيعة).
والأيام عندنا نحن السنة حبلى ولا شك، ولا يستبعد كاتب هذه الأسطر أن تأتى الرياح بما لا تشتهى السفن ويكون لدينا عن قريب عاجل رجل من نوع أية الله على خامينئى، “بابا سنى” ! فهل تمتلك مجتمعاتنا يومها حيوية تحويلهم إلى أحافير اجتماعية؟ عجبى!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق