مضى على أزمة حلقات التحفيظ بمنطقة مكة المكرمة أكثر من شهرين ونصف، والمجتمع كله يترقب ما تسفر عنه محاولات إعادة الحلقات وعودة دوي القرآن إلى المساجد بعد هذا التوقف الطويل، وقد استبشر الناس خيراً عندما تم الإعلان عن موافقة أمير المنطقة على خطة السعودة التدريجية التي مدتها ثلاث سنوات حتى إن أخانا الفاضل "عصام مدير" وهو صاحب الجهد الكبير في توثيق كل ما يتعلق بهذه الأزمة على مدونته الشهيرة: "معاً لنصرة جمعيات التحفيظ بمنطقة مكة" كتب مقالاً يوحي بأن الأزمة قد انتهت وأخذ يعدد الدروس والعبر المستقاة من هذا الحدث. وقد تناقل الناس البشارة بعودة الحلقات ، وكنت ممن فعل ذلك فبشرت جيراني وجماعة المسجد في حيِّنا، كما بشرت ابني الذي كان أحد ضحايا توقف الحلقات.
إلا أن هذه الفرحة لم تدم طويلاً، إذ تفاجأ الناس في صباح اليوم التالي وهو يوم الأحد 29/12/1431هـ بالخبر الذي أذاعته وكالة "واس" حول موافقة الأمير والذي تضَمَّن وضع "شروط تعجيزية" على المعلمين والمعلمات غير السعوديين الذين سيعملون في الجمعيات الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم خلال الخطة ، وأن الحَمل الذي تم التبشير به كان "حَملاً كاذباً" وقع خارج "رحم" الحقيقة وداخل "قناة" المماطلة قريبا من "مبيض" المغالطة.
هذه الشروط جعلت الكاتب القدير الدكتور محمد الهرفي "يسيء الظن" ويُكفِّر عن مقاله السابق في جريدة عكاظ والذي عنونه بـ " حلقات التحفيظ...وحسن الظن" بمقال آخر عنوانه "حلقات تحفيظ القرآن...أين الحقيقة؟" نشره موقع "لجينيات" [ لا أدري لماذا لم يُنشر في ذات الصحيفة؟] انتقد فيه هذه الشروط ، واعتبر ما نُشر في الصحف عن هذه الشروط (مدعاة للقلق الكبير) بل قال بالحرف الواحد: ( ولكنَّ ما قيل عن المواصفات التي يجب أن تتوفر في غير السعوديين لكي يستمروا في عملهم يوحي بأن الهدف إيقاف هذه الحلقات نهائياً حتى يتم إيجاد سعوديين ، وبطبيعة الحال لا يُعرف متى يمكن أن يوجد هؤلاء ليغطوا الاحتياج الفعلي لهذه الحلقات!! بعض الشروط التي وضعت لا يمكن تحقيقها إطلاقاً ، ومن المستغرب أن لا تعرف الإمارة أو المسئولون عن الجمعيات ذلك ، وكان من واجبهم أن يسألوا جهات الاختصاص -إن كانوا لا يعرفون- حتى لا تبدو المسألة وكأنها اتفاق على شروط تعجيزية!!) وتعليقاً على ذلك أقول: لا شك عندي أن المسؤولين عن الجمعيات يدركون ذلك لكنهم فيما يبدو قد أُكرهوا على هذه الشروط، فهي أشبه ما تكون بشروط الإذعان.
كانت الخطة المقترحة التي قُدِّمت للأمير لحل الأزمة تقضي بوصول نسبة السعودة إلى 40% خلال السنوات الثلاث الأولى وهي نسبة أكثر واقعية مع أنها تحمل الكثير من التحديات والصعوبات لمن يعرف الواقع، إلا أن الأمير أصرَّ على تعديل الخطة بحيث يتم بلوغ نسبة الـ 100% في ثلاث سنوات، وهو الأمر الذي يستحيل تحقيقه! ، ويبدو أن محبي القرآن رأوا أن المهم في اللحظة الراهنة، هو عودة الحلقات وبعد ثلاث سنوات "يخلق الله ما لا تعلمون"، ثم تفاجأ الجميع بتلك "الشروط التعجيزية" وتضمينها في خطة السعودة.
ولعلّي أوجز الملاحظات على هذه الشروط في النقاط التالية:
أولاً: الشرط الأول وهو "بيت القصيد" والذي يقضي بـ (أن تكون إقامتهم على كفالة الجمعية وغير مخالفين لأنظمة العمل والعمال). والذي وضع هذا الشرط إما أنه لا يعلم طبيعة عمل معلمي الحلقات، أو أنه يعلم وتعمد وضع هذا الشرط لتعطيل عودة الحلقات .
فالتدريس في حلقات التحفيظ كما يقول الشيخ علي بادحدح: ( ليس وظيفة رسمية في ديوان الخدمة المدنية، كما أنها ليست مهنة معتمدة في نظام العمل والعمل، فهي خارج نطاق السعودة بالمعنى الاصطلاحي المتعارف عليه.) ولتوضيح ذلك فإن غالب معلمي حلقات القرآن هم موظفون يعملون في وظائف أخرى لدى كفلائهم في الفترة الصباحية، وعملهم في تحفيظ القرآن هو عمل إضافي تعاوني في الفترة المسائية - التي هي فترة عمل الحلقات – وما يحصلون عليه مقابل ذلك هو مكافأة محدودة (500ريال) لا تعتبر مصدر دخل أساسي. وقد تفهمت وزارة الداخلية منذ وقت مبكر هذا الوضع وعالجته بخطاب سمو نائب وزير الداخلية رقم 1/ب/4922 وتاريخ 17/15/1419هـ والذي يتضمَّن طلب الجمعيات ( عدم إلزام العاملين المتعاونين مع الجمعية بنقل كفالتهم إليها لأن عملهم يقتصر على الفترة المسائية فقط وهم تحت كفالة جهات أخرى) وموافقة سموه على ذلك. ووزارة الداخلية هي مرجع الإمارة كما هو معلوم.
أما نظام العمل والعمال فلا يوجد فيه أصلا مهنة بمسمى: "معلم حلقة قرآن"! يقول الدكتور الهرفي:(إن وزارة العمل ترفض إعطاء الجمعية تأشيرات باسم "مدرس قرآن" لأن هذا من اختصاص وزارة التربية – كما يقولون – ومعروف أن الجمعية سبق أن حاولت ذلك لكنها عجزت .. فإذا كان الأمر هكذا – وهذا معروف- فهذا يعني عدم استمرار كل المدرسين الحاليين، ويعني – تبعاً لذلك – إقفال الحلقات لعدة سنوات!!) [انتهى من مقاله الذي سبقت الإشارة إليه] ، فلِكي يتم عملهم وفق نظام العمل والعمال لابد أولاً من تعديل نظام العمل والعمال ليشمل هذه المهنة، وهذا أمر خارج عن صلاحيات وقدرات إمارة المنطقة.
وعلى فرض أنَّ نقل الكفالة ممكن، وأن نظام العمل والعمال يسمح بذلك؛ فمن هذا العاقل الذي يترك عمله الأساسي لدى كفيله والذي يتقاضى عليه راتباً مجزياً أو غير مجزٍ، لينقل كفالته إلى جمعية تحفيظ القرآن ويكتفي بالمكافأة المحدودة التي لا تسد رمقه؟! وهو يعلم أيضاً أنه سيتم الاستغناء عنه وترحيله بعد سنة أو سنتين أو ثلاث على الأكثر حسب ما تقضي به الخطة؟.
فإن لم يكن هذا الشرط تعجيزياً فما هو التعجيز إذن؟.
ثانياً: الشرط الثاني ينص على (أن يحصل المعلم على إجازة جامعية أو دبلوم في القرآن الكريم وتفسيره أو ما يعادلهما).
والذي وضع هذا الشرط واضحٌ أنه لا يفرق بين علم التجويد والقراءات وعلوم القرآن الأخرى! فليس كل من تخصص في علوم القرآن يكون متقناً للتجويد والقراءات، قادراً على تدريسهما كما أن القراءات تخصص خاص في الجامعات كما هو معلوم. ولا أدل على ما ذكرته من أن مدير عام التعليم بمحافظة جدة قدَّم للإمارة قائمة تحتوي على أسماء 1070متخصصا في العلوم الشرعية والتربية الإسلامية، ممن هم على قائمة انتظار التوظيف في سلك التعليم، لترشيحهم للعمل كمعلمين في الحلقات، وعندما تم الاتصال بهم تبين أن من تنطبق عليهم الشروط لا يتجاوزون 20 متقدماً في منطقة مكة كلها! فلجأ بعد ذلك إلى التعميم على معلمي التربية الإسلامية بمدارس جدة لحثهم على التطوع للتدريس في الحلقات ، فكان هذا التعميم محل تندُّر الميدان التربوي لأنهم يعلمون أن جمعيات تحفيظ القرآن هي التي تخدم وزارة التربية في هذا المجال وليس العكس! وما أكثر الدورات التي تنظمها جمعيات تحفيظ القرآن لمعلمي وزارة التربية والتعليم وبطلب رسمي من إدارات التربية والتعليم!.
ثم إنَّ علم التجويد والقراءات هو من التخصصات النادرة ولذلك فإن الجامعات تمنح من يقومون بالتدريس في هذا التخصص مكافأة خاصة تسمى "بدل ندرة" وهو البدل الذي يعطى لأصحاب التخصصات العلمية النادرة.
وبناءً عليه فإن أصحاب هذه التخصصات النادرة لا يتجهون للعمل في جمعيات التحفيظ لأن أمامهم فرصاً كبيرة للعمل في الجامعات والمعاهد المتخصصة وهم مطلوبون فيها ، ولكنهم يتعاونون مع الجمعيات للعمل خارج الدوام، وجمعيات تحفيظ القرآن تستعين بهم وبغيرهم ممن لديهم إجازات في القرآن - وإن لم يكونوا من المتخصصين أكاديمياً - في القراءات والتجويد . ومعلوم أنَّ مشاهير القراء ومنهم عدد من أئمة الحرمين ليسوا من المتخصصين أكاديمياً لا في علوم القرآن ولا في علم القراءات والتجويد.
ولذلك يرى الدكتور الهرفي أن يُترك تحديد مؤهلات المدرسين لجمعيات تحفيظ القرآن باعتبارهم جهة الاختصاص حيث تقوم هذه الجمعيات بإجراء اختبارات لكل معلم ، وهذه الاختبارات تتناسب مع احتياجاتهم.
وخلاصة القول: أن التخصص المذكور في هذا الشرط لا يخدم الهدف ، وصاحب التخصص الأكاديمي الذي يخدم الهدف لا يقبل بهذا العمل . وبناءً عليه فهذا الشرط في التعجيز كسابقه.
ثالثاً: الشرط الثالث ينص على (أن يكون المعلم حسن السيرة والسلوك)
وهذا الشرط لا يعترض عليه أحد، ولا يختلف فيه اثنان، لكن ينبغي أن يُترك الأمر فيه لتقدير جمعيات تحفيظ القرآن الكريم فهي الأكثر حرصاً والأقدر على ذلك ومعاييرها في حسن السيرة والسلوك مرتفعة.
وعلى كل حال فهذا الشرط يختلف عن سابقيه بأنه ليس شرطاً تعجيزياً بل هو شرط مطلوب إلا إذا كان التعجيز في الجهة التي يجب أن تصدر منها شهادة حسن السيرة والسلوك .
رابعاً: الشرط الرابع ينص على (أن يكون سجله خالياً من السوابق الجنائية أو الأمنية).
وهذا الشرط من الأهمية بمكان بحيث لا يختلف عليه اثنان، لكن ما مدى الجدوى منه؟ فهو تحصيلُ حاصل لأن غير السعودي إذا حصلت منه جريمة جنائية أو أمنية فإنه يُرحَّل مباشرة بعد قضاء العقوبة التي عليه كما تنص على ذلك الأنظمة وكما هو معمول به، فوضع هذا الشرط لا يفيد شيئاً سوى أنه يعطل ويؤخر إجراءات التوظيف مما يساهم في تعطيل عمل الحلقات.
وبمناسبة هذا الشرط، أود أن أشير هنا إلى خطاب معالي وزير الشئون الإسلامية رقم (1/2/1282/س) وتاريخ 29/10/1421هـ والذي وجّه فيه ( بزيادة التوسع في فتح الحلقات في جميع الأحياء والقرى كحلٍّ للقضاء على الجريمة وأسبابها بناءً على توصيات الدراسة التي أعدتها اللجنة المشكلة لدراسة الجريمة وأسبابها ووسائل علاجها ) انتهى.
وأيضا تصريح المتحدث باسم وزارة الداخلية اللواء منصور التركي في "الملتقى الرابع للجمعيات الخيرية لتحفيظ القرآن" المنعقد في المنطقة الشرقية بمحافظة الخبر من يوم الثلاثاء 29/2/1430هـ إلى يوم الخميس 1/3/1430هـ بعنوان "جمعيات تحفيظ القرآن الكريم ودورها في تحقيق الأمن" حيث أشار - أثناء إدارته لإحدى جلسات الملتقى - إلى تبرئة حلقات تحفيظ القرآن من تهم التطرف والإرهاب التي تثيرها بعض وسائل الإعلام ضدها، وسطَّر في سجل الزيارات ما نصُّه: (لقد تشرفت هذا اليوم بالمشاركة في الملتقى العلمي الرابع لجمعيات تحفيظ القرآن الكريم حيث لمست الاهتمام المميز بالسعي إلى تحقيق الأهداف السامية من جهد الجمعيات في المساهمة بالمحافظة على الأمن من خلال العمل بالقرآن الكريم وأحكامه الشرعية) انتهى. ولا تعليق!
خامساً: الشرط الخامس ينص على (موافقة الإمارة على تعيينه) .
وهذا الشرط في غاية الغرابة فهناك حسب الإحصاءات 8 ملايين وافد يعيشون على أرض المملكة فهل كلُّ هؤلاء لا يتم التحاقهم بأي عمل لدى كفلائهم إلا بعد موافقة إمارة المنطقة التي يتبعونها؟ وهل المعلمون غير السعوديين في المدارس الأهلية لا يعينون فيها إلا بعد موافقة الإمارة؟
الأمر المنطقي المتبع الذي يُعمل به في كل مناطق المملكة أن الإمارة لا تتدخل في مثل هذه الأمور، لأن هناك لوائح وأنظمة تضبط عمل الجمعيات، ومرجعها في ذلك هو وزارة الشئون الإسلامية حسب التسلسل الإداري المعمول به، إلا إذا كان هناك ملاحظة نظامية أو أمنية على أمرٍ ما، أو شخصٍ ما، فمن واجب الإمارة حينئذ أن تتخذ الإجراء المناسب بحقه.
ولذلك فإن مثل هذا الشرط يوحي بأن وراء الأكمة ما وراءها، خاصة مع ما يجري حاليّاً وسابقاً من تأخير وتعطيل ومنع لكثير من البرامج والأنشطة الدعوية كمخيم البحر الصيفي ومخيم الشباب اللذين حرم أهالي جدة منهما لثلاث سنوات متتالية.
الحاصل أنَّ موضوع الشروط ينبغي أن يُترك للجمعياتِ والأنظمةِ الصادرة من وزارة الشئون الإسلامية فهي جهة الاختصاص التي تنظم وتحكم عمل الجمعيات ولا يصح تدخل الإمارة في عملها بهذه الطريقة التي تلغي فيها دور الوزارة وتنظيماتها.
وإضافة إلى ما سبق فقد تضَمَّن خبر "واس" المذكور: (إنشاء صندوق خالد الفيصل لتعليم القرآن الكريم الذي يدعم توجه توطين وظائف حلقات تحفيظ القرآن الكريم حيث يرأس سموه مجلس إدارته ويضم 10 أعضاء من جهات حكومية ورجال الأعمال) وما يخشاه الكثيرون هو أن يكون هذا الصندوق صارفاً لتبرعات كثير من المحسنين المباشرة لجمعيات تحفيظ القرآن إلى هذا الصندوق، مما يعني إضعاف موارد الجمعيات بطريقة غير مباشرة - وربما غير مقصودة - وبالتالي إضعاف قدرتها على مواصلة عملها خاصة وأن هدف الصندوق يختص بـ (توطين وظائف تدريس القرآن الكريم وعلومه) فقط دون باقي برامج وأنشطة الجمعيات، وهذا الهدف يمكن تحقيقه من خلال "صندوق الموارد البشرية" الذي يهدف إلى توطين الوظائف في القطاع الخاص.
وأخيراً فإن قضية "سعودة معلمي الحلقات" بِرُمَّتِها تحتاج إلى مراجعة، فالعلم ليس له جنسية كما أن (الفكر الصحيح...واللسان الفصيح) – كما هو شعار الصندوق - ليس خاصاً بالسعوديين فإن فيهم – كما هو في غيرهم – أصحاب فكر منحرف ومن لا يعرف من الفصاحة شيئاً ، وقد قال الله تعالى عن القرآن: (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدىً للناس)، وليس للسعوديين فقط. وينبغي أن يكون المعيار في ذلك هو الأمانة والكفاءة وسلامة المعتقد، ولا مانع أن تكون الأولوية للسعوديين، ولا يُقبل بحال من الأحوال أن تتعطل الحلقات بسبب عدم توفر المعلم السعودي، وكل من يريد أن يحصل على إجازة في القرآن فلن يبحث عن الشيخ السعودي بل سيبحث عن الشيخ المجوِّد المتقن والسند العالي المتصل أياً كانت جنسية هذا الشيخ.
وهذا نافع بن عبد الحارث يلقى عمر بن الخطاب بعسفان - وكان عمر استعمله على أهل مكة - فسلم على عمر فقال له عمر: من استخلفت على أهل الوادي؟ فقال نافع: استخلفت عليهم ابن أبزى فقال عمر: ومن ابن أبزى؟ فقال مولى من موالينا. فقال عمر: فاستخلفت عليهم مولى؟ فقال: يا أمير المؤمنين إنه قارئ لكتاب الله عالم بالفرائض. فقال عمر: أما إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين) رواه مسلم. فعِلمُهُ بالقرآن والفرائض – مع أنه مولى – جعله أميرا على أهل مكة ونحن نستكبر أن نتعلم منه القرآن، اللهم ألهمنا رشدنا وقنا شر أنفسنا .
د. خليل بن إبراهيم بخاري
الدويش وخوجة
http://www.youtube.com/watch?v=0SQ9vq85jUc
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق