أما آن لدوي القرآن أن يعود إلى بيوت الله !
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم وبعد،
فإن حلقات تحفيظ القرآن الكريم في منطقة مكة المكرمة توقفت فعلياً إثر توجيه الأمارة الذي ورد فيه ما نصه "التعليمات تمنع الأجانب من التدريس في حلقات تحفيظ القرآن الكريم لذا نرغب الاطلاع والتأكيد على استبعاد الأجانب منها فوراً"، وترددت في الصحف أنباء توضيحات الأمارة بأنها تهدف إلى التنظيم لا التوقيف (صحيفة المدينة 25/10/2010م)، ثم وردت أخبار توجيه أمير المنطقة بالاستعانة بمدرسين سعوديين عن طريق إدراة التربية والتعليم، وفي 7/11/1431هـ أوردت صحيفة عكاظ تصريح مسؤول في وزارة الشؤون الإسلامية بأن "المعلمين الوافدين سيعودون إلى حلقاتهم بعد أسبوع من الآن" وجاء موسم الحج وكان الاعتقاد أن الحلقات ستعود بعد استئناف الدراسة النظامية ولكن حتى الآن وبعد أن مضى على القرار الصادر في 17/10/1431هـ أكثر من شهرين ما زالت الحلقات متوقفة.
وهنا أشير إلى نقاط أساسية حول السعودة لمدرسي الحلقات:
1- التدريس في حلقات التحفيظ ليس وظيفة رسمية في ديوان الخدمة المدنية، كما أنها ليست مهنة معتمدة في نظام العمل والعمل، فهي خارج نطاق السعودة بالمعنى الاصطلاحي المتعارف عليه.
2- السعودة إن كان المراد بها توفير فرص وظيفية للمواطنين لتشغيل العاطلين منهم، ومنحهم فرصة العيش الكريم فهذا غير متحقق لما سبق ذكره آنفاً، ولأن هذه المهمة ليس لها راتب مجز وإنما لها مكافأة محدودة جداً لاتعتير مصدر دخل أساسي لا للمواطن ولا للمقيم، فالسعودة لهذا الغرض (خارج التغطية)، وهي للعاقل إما أمر محير لا يفهم، وإما غطاء لغرض غير مساعدة أبناء الوطن، ولا نحتاج إلى ذكاء كبير لنرى أن الجواب يأتي بقوة في النتيجة وهي توقف حلقات التحفيظ وعدم شغلها بالمواطنين؟!.
3- السعودة إن قيل إنها لإبعاد احتمالات ومزاعم حول تأثيرات فكرية ومذهبية منحرفة، فمن الأقوى والأقدر على مثل هذا الفعل – على افتراض صحته – ؟!، المقيم مستضعف تحت سلطة كفيله وتحت وطأة الحاجة إلى لقمة العيش، وفي ظل الأنظمة التي تقضي بأن كل مخالف يصدر بحقه أي حكم قضائي يتم ترحيله بعد انتهاء عقوبته، بينما السعودي المواطن لا يخاف كل هذه الأمور، فضلاً عن كونه أكثر قبولاً لدى الجميع، وأبعد من غيره عن دائرة الشك.
وأنا عملت في خدمة القرآن الكريم معلماً ومشرفاً وعضواً في مجلس الإدارة لأكثر من عقدين، وأعرف أن نظام الجمعية – وخاصة بعد التنظيمات واللوائح المفصلة – عندها معايير لاختيار المدرس لا تقتصر على مجرد حفظه وحسن تجويده بل تتعداها إلى سلوكه وأخلاقه ولا تستثني بشكل عام فكره وتوجهه، ثم هناك نظام الإشراف على المساجد من قبل مشرفين يضم كل مجموعة منهم قطاع له مسؤول يتابع عملهم وتقاريرهم، وكل هؤلاء تحت إدارة خاصة بالشؤون التعليمية.
وفي حال وجود من عنده انحراف أو خلل فإن الجمعية تعالج ذلك وتنحي المدرس، وإذا كان هناك ما غاب عنها فإن العلاج ليس في السعودة الفورية الشاملة بل بالمعالجة الجزئية بحسب الحالات المحددة، ولا أفهم هل تم فجأة اكتشاف أن الغالبية العظمى منحرفون؟، كيف لم تلحظ ذلك الجمعية؟، كيف لم ينتبه له أولياء الأمور؟، وكيف لم تعرفه الأجهزة الأمنية منذ وقت مبكر؟!.
4- السعودة لو كانت هي الهدف فلا يخفى على مصدر القرار أنها لا يمكن أن تتم بسرعة، وان المطالبة الفورية الشاملة بها هو تكليف بما لا يطاق، أو طلب ما لا يستطاع، ومن المنطقي أن يكون هناك توقع النتائج وهو توقف التدريس في الحلقات.
5- من الأدلة على أن السعودة في تدريس الحلقات القرآنية غطاء غير ساتر، وفي أحسن الأحوال تعجل غير مدروس، هو أن الأمارة سعت إلى الاجتماع بالجمعية مع إدارة التربية والتعليم للعمل على حل إشكالية عدم توفر المدرسين السعوديين، وهذا إعتراف بأن الجمعية لن تكون قادرة على تحقيق السعودة لا من حيث قدرتها الفعلية، ولا من حيث قدرتها النظامية فهي جمعية خيرية لا تستطيع أن تتواصل عملياً وتنفيذياً مع جهات حكومية.
6- الدلالة الأظهر هي ما انتهي إليه أمر الاستعانة بإدارة التربية والتعليم، فالصحافة المتخصصة في التغطية والتجميل أفادت بأنه تقدم 1070 معلماً لهذا الغرض، وقد تسلمت الجمعية قوائم الأسماء واتصلت بهم واتضح أن هؤلاء المتقدمون تقدموا لحصول على وظيفة معلم رسمية من الوظائف الحكومية في الخدمة المدنية، وأن كثيراً منهم من خارج منطقة مكة المكرمة، والغالبية منهم تخصصاتهم ليست متصلة بالقرآن، وأخيراً الذين ذكروا أن لديهم استعداداً للتدريس عدد ضيئل جداً لم يصل إلى 30 معلماً، فإن كانت الأمارة لا تعرف هذه النتائج من قبل فهي مشكلة، وإن كانت تعرف فالمشكلة أكبر، سيما وأن رئيس مجلس إدارة التحفيظ بمنطقة مكة المكرمة معالي الراحل الشيخ أحمد صلاح جمجوم رحمه الله رفع لسمو وزير الداخلية بتاريخ 9/10/1427هـ ، توضيحاً تفصيلياً حول سعودة مدرسي الحلقات وعوائقها الفعلية التي لا تملك الجمعية تغييرها ولا التحكم فيها، وورد فيه أن الجمعية " لا تألوا جهداً في تأهيل وتدريب وتوفير المعلم السعودي الكفء، ولكن وللأسباب الآنفة الذكر لم تستطع تغطية النقص الحاصل" وأشار الخطاب في ختامه إلى " أن التوجيهات قد صدرت بزيادة التوسع في فتح الحلقات في جميع الأحياء والقرى كحل للقضاء على الجريمة وأسبابها بناء على توصيات الدراسة التي أعدتها اللجنة المشكلة لدراسة دوافع الجريمة وأسبابها ووسائل علاجها، كما جاء في خطاب معالي وزير الشؤون افسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، رئيس المجلس الأعلى للجمعيات الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم رقم (1/2/1282/س) في 29/10/ 1421هـ". ولا حاجة للتعليق هنا.
7- وإليكم أخيراً شمساً مشرقة بل محرقة بحقائق الدراسات التخصصية حول موضوع السعودة في حلقات تحفيظ القرآن حيث قام (معهد الإدارة العامة – فرع منطقة مكة المكرمة – إدارة البحوث والاستشارات) بدراسة عنوانها: (دراسة سعودة وظائف معلمي تحفيظ القرآن الكريم بالجمعيات الخيرية)، وصدرت في جمادى الآخرة عام 1431هـ، والتوصيات هذه يمكن الرجوع إليها.
أيها المسلمون أيها العقلاء لم تتوقف سيارات الليموزين إلى أن تتم السعودة، لم تتوقف المصانع إلى أن تتم السعودة، لم تغلق الشركات والمحلات إلى أن تتم السعودة، لم يتوقف التدريس في المدارس الخاصة إلى أن تتم السعودة، لم يتم توقف أي شيء إلى أن تتم السعودة، وغاية ما كان مطالبات أو متابعات أو عقوبات فلماذا في حلقات القرآن توقفت وهي متوقفة حتى الآن بانتظار السعودة.
فهل من المعقول بعد كل هذا بقاء توقيف الحلقات وحرمان أبنائنا من تعلم القرآن وحفظه، وهل يتعلق مصير تعليم القرآن بإجراءات السعودة ومشكلات الأجهزة الحكومية والقرارات المختلفة بل والمتعارضة أحياناً؟، وهل يظل دوي القرآن مخنوقاً في المساجد، والحلقات معطلة في بيت الله الحرام رهناً باختلافات في الآراء وتحديات في الإعلام؟، أيها المسلمون إنه القرآن الكريم كلام رب العالمين، إنهم عشرات الآلاف من أبنائنا وبناتنا فلذات أكبادنا وأجيالنا المستقبلية، إنها مكة المكرمة مهبط الوحي، إنها المملكة التي ملكها خادم الحرمين الشريفين، إنها منطقة مكة المكرمة قبلة المسلمين ومهوى أفئدتهم ومناسك حجهم.
كل ما سبق ذكره يوجب بكل قوة أن تعود الحلقات فوراً، ورتبوا أموركم وحلوا مشكلاتكم وعالجوا خلافاتكم، وأصلحوا أنظمتكم بعد ذلك كما تشاؤون ووقت ما تشاؤون، إن انتهيتم غداً فحياكم الله، وإن انتهيتم بعد عشر سنوات فأهلاً بكم، وإن جئتم بمواطنين من المنطقة أو من المملكة أو من خارج الكرة الأرضية فنحن ننتظركم، كل ذلك لا نقبل أن يوقف الحلقات فقد طالت المدة بما لا يحتمل، أما بقاء التوقف بحال لا يرى له أفق في ظل هذه الحالة البيروقراطية، مع التعسف الإداري والتحدي والغطرسة، وأدعو الجميع أن يقوموا بكل ما يستطيعون، وأن يبذلوا كل جهودهم لعودة واستئناف حلقات القرآن الكريم فوراً ولا شيء قبل ذلك، وكل أمر أو دراسة تكون بعد ذلك، كفى كفى كفى اتقوا الله فقد آن لدوي القرآن أن يعود ليملأ بيوت الله لتعود البسمة وتنشرح الصدور وتطمئن القلوب وتهتدي العقول وتترطب الألسنة بكلام الله، وإلى المسؤولين المباشرين الذين بيدهم الأمر أقول أعيدوها الآن وليس غداً فبعد هذه المدة وبعد هذه الحقائق لا أرى لكم عذراً ألا تفعلوا .
د.علي عمر بادحدح
(عضو مجلس إدارة الجمعية الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم بجدة سابقاً).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق